الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أما قوله: {وحففناهما بنخل} فقال صاحب الكشاف: إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه جعلنا النخيل محيطًا بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولاسيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. {وجعلنا بينهما زرعًا} فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنعفة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل.{وآتت} محمول على لفظ {كلتا} لأن لفظه مفرد. ولو قيل: آتتا. على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد ههنا. {وفجرنا} من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار {وكان له ثمر} قال الكسائي: الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال قطرب: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكنًا من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء. والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه. وقيل: الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الإناث.ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه: {ودخل جنته} فقال جار الله: معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. قلت: لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراءات في قوله: {لأجدن خيرًا منها} وإنما وصفه بقوله: {وهو ظالم لنفسه} لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعًا للنعم في غير موضعها، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} [الحج: 5] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلًا {ما أظن أن تبيد} أي تهلك {هذه} الجنة {أبدًا} وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود الدلائل الشرعية على وجوبه قائلًا {وما أظن الساعة قائمة} ثم أقسم على أنه إن رد إلى ره فرضًا وتقديرًا وكما يزعم صاحبه أن له ربًا وأنه سيرد إليه وجد خيرًا من جنته في الدنيا كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلًا وإنما تكون استحقاقًا وكرامة. {منقلبًا} نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حسًا أو في اعتقادكم.قال بعض العلماء: الرد يتضمن كراهة المردود إليه فلهذا قال: {ولئن رددت} أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبدًا إلى ربي، ولما لم يسبق مثل هذا المعنى في حم قال هناك: {ولئن رجعت إلى ربي} [فصلت: 50]، قوله: {أكفرت} زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر البعث. وأقول: يحتمل أن يكون كافرًا بالله أيضًا بل مشركًا لقوله بعد ذلك: {يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا} ولقول أخيه معرضًا به {لكنا هو الله ربي} وليس في قوله: {ولئن رددت إلى ربي} دلالة على أنه كان عارفًا بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه كما أشرنا إليه. وقوله: {خلقك من تراب} أي خلق أصلك وهو إشارة إلى مادته البعيدة. وقوله: {من نطفة} إشارة إلى مادته القريبة. ومعنى {سوّاك رجلًا} عدلك وكلك حال كونك إنسانًا ذكرًا بالغًا مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون {رجلًا} تمييزًا.ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلًا على وجود الصانع أولًا، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات، وفيه أيضًا إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة، وفيه أنه خلقه فقيرًا لا غنيًا علم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار، ثم استدرك لقوله: {أكفرت} كأنه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد. وأصل {لكنا} لكن أنا حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية وضمير الغائب للشأن، والجملة بعده خبر للشأن، والمجموع خبر أنا والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة {ولولا} للتخفيض وفعله. قلت: {وإذ دخلت} ظرف وقع في البين توسعًا. وقوله: {ما شاء الله} خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد. والجواب أن هذا التقدير مما يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل السماء فوقنا. وأجاب القفال بأنه أراد ما شاء الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله: {لا قوة إلا بالله} أي ما قويت به على عمارته وتدبير أمره فهو بمعونة الله، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة ذلك البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره.عن عروه بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال: {إن ترن أنا أقل} فأنا فصل و{أقل} مفعول ثان {مالًا وولدًا} نصب على التمييز {فعسى ربي أن يؤتيني} في الدنيا أو في الآخرة جنة {خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا} هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقدارًا وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها.وعن الزجاج: عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك. وقيل: هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق. {فتصبح صعيدًا زلقًا} أرضًا بيضاء يزلق عليها زلقًا لملاستها. وزلقًا وغورًا كلاهما بالمصدر كقولهم فلان زور وصوم.ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدر المؤمن فقال: {وأحيط بثمره} وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله: {إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]، {فأصبح يقلب كفيه} أي يندم {على ما أنفق فيها} لأن النادم يفعل كذلك غالبًا كما قد يعض أنامله. {وهي خاوية على عروشها} أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله: {يا ليتني لم أشرك} تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم، ومن ذهب إلى أنه جعل كافرًا لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكًا في إعطاء العز والغنى، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويًا لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه ندمًا على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعًا في دوام ذلك عليه، فلهذا لم يصر ندمه مقبولًا ووصفه بعد ذلك بقوله: {ولم يكن له فئة} طائفة {ينصرونه من دون الله} لأنه وحده قادر على نصرة العباد. {وما كان منتصرًا} ممتنعًا بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل {هنالك} أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو {الولاية لله الحق} والولاية بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر {يا ليتني} إنما صدر عنه إلجاءً واضطرارًا وجزعًا ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها.وقيل: {هنالك} إِشارة إلى الآخرة كقوله: {لمن الملك اليوم لله} [غافر: 16] {عقبًا} بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط.ثم ضرب مثلًا آخر لجبابرة قريش فقال: {واضرب لهم} الآية. وقد مر مثله في أوائل يونس {إنما مثل الحياة الدنيا كماء} ومعنى {فاختلط به} التف بسببه. وقيل: معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين. والهشيم ما تهشم وتحطم، والذر والتطيير والإذهاب. تقول: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروًا وذريًا. {وكان الله على كل شيء مقتدرًا} من تكونيه أوّلًا وتنميته وسطًا وإذهابه آخرًا. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضًا كذلك تظهر أولًا في غاية الحسن والنضارة، ثم تتزايد إلى أن تتكامل، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به. وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات} هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها {خير عند ربك ثوابًا} أي تعلق ثواب وخير أملًا لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل: هن الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن كل مالًا ينبغي، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفًا بالوصفين إلا هو، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم. وقيل: الطيب من القول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قاله قتادة. اهـ.
|